الفصل الخمسين

3110 Words
مالك مراد. شكرنا كرم الكريم الذي اكتمل لما طلب من سائقه وحارسه الخاص إيصالنا بسيارته البتلي الفاخرة إلى القاعدة. ركب ثلاثتنا بالخلف لنشاهد من خلف زجاج السيارة الفاخرة ما لم نشاهده من الأسفل، على مستوى نظرنا منذ وطئت أقدامنا أمريكا. بنايات شاهقة، مطاعم ومحال فاخرة، نساء جميلات بصحبة مخنثين، عالم حسبنا أنه بانتظارنا ولا ينتظر قتلنا. قتلنا قريب إن لم يبدي الحسام موافقة شارحة على عرض هشام، لأن حسام كل ما يراه من عرض هشام؛ محاولة من كريم ليضع أعدائه أقرب لعيناه وكأن كريم في حاجة لمراقبة أعدائه وليس دحرهم من فوره كما تضاحك أمجد على حسام بل وأخبره أنه وجب عليه أن يعيش ما تبقى من عمره عبداً طائعاً لكريم بعدما عفي عنه وتركه على قيد الحياة بعد فعلته النكراء. وقبل عراك داخل البتلي بين أمجد وحسام وصلنا لبداية أسوار القاعدة العسكرية وعلينا الترجل للتمشي على أرجلنا لمسافة ثلاثة أميال فنحن لن نجد الان حافلات تخرج وتدخل للقاعدة بهذا الوقت المتأخر قد تقلنا لمهاجع النوم إلا أن سائق البتلي لم يتوقف وأكمل بالسيارة إلى أن وصل إلى كشك التفتيش الأول. توقفت البتلي ثم أخرج سائقها لحراسة القاعدة بطاقة سوداء تحمل اسم مجموعة الدويري وكأنها تحمل أي معنى للجيش الأمريكي. تفحص الحارس البطاقة لبرهة ثم قام باتصال داخلي من كابينته للقاعدة، لحظات حتى جائه الرد بالسماح بدخول سيارة خاصة لقاعدة حربية مما جعل أمجد ينظر لحسام مؤكدًا وجهة نظرته المكتملة البرهان - العبودية الطائعة للدويري - فنفوذ الكريم لا يتوقف عند الوطن العربي فحسب. أكمل سائق البتلي الصامت قيادة حتى المقر الرئيسي للإدارة وتوقف هناك بلا كلمات رغم أنه عربي مصري كان ضابطاً عسكري بوقتاً ما وحتى تقاعد وعمل لدي الكريم كما علمتُ من حسام. ترجلنا من البتلي محافظين على تعجبنا ومقتنا في ذات الوقت، ذهبنا ساهمين للمقبرة التي دفنا بها بينما توقفت لبرهة لأشكر السائق على أي شيء، اشتقت فحسب لأي كلمة عربية تخرج عن فاه عربي أصيل، بينما السائق ضن على بها لما أومأ لي محيا بلا كلمات كذلك. هممتُ لإتباع صديقاي إلا إنني سمعت العربية يتردد صداها العذب بالقاعدة - يا أخينا- وحينها عدتُ للسائق الذي تتدلى عن يده شنطة هاند باج صغيرة أخرجها من نافذة السيارة ثم أردف: - من كريم بيه. تناولت الحقيبة من السائق في وجل متحير؛ ترى ماذا منح كريم به للمتسولين الثلاث، فتحت سحاب الحقيبة لتفحص محتوياتها، وجدت العديد من خراطيش السجائر الجديدة التي طلبها الكريم من أجلنا بالمطعم للتو، أربع زجاجات من الفودكا الروسية وزجاجتين ويسكي دي جون وأغلقتُ السحاب على ما تبقى من كرامتي التي انتهكتها حقيبة كريم للتصدق على طيارين صغار كانوا تسلية أكثر من ممتعة لأمثاله. ناولت الحقيبة للسائق مجدداً وقلتُ: - رجعهاله .. قوله متشكرين .                                                         السائق حدق بي لثواني ثم قال: - في الغربة ما تقولش لاء.. مسيرك يوم ترد لما ترجع مجبور الخاطر. ثم انطلق السائق بالسيارة الفاخرة وعاد أدراجه أما عن حقيبة الصدقة، لازالت معلقة بيدي ورقبتي حتى يأتي يوم الرد. عدتُ للصديقين في عنبر المغتربين من كل أصقاع العالم وجدتهما يتشاجران بحدة ليست لهما، حسام يدفع أمجد في كتفه بقوة، فهم أمجد بدوره لرد الصاع لولا أنني أوقفته وسألت عما يجري فصاح أمجد: - أقرع ونزهي هو مش عايز هو حر يرفض على لسانا ليه؟! - حسام عنده حق إحنا مش شحاتين عشان نقبل صدقة حد.. إحنا طلبة محترمين صاح أمجد بنا: - يلعن أبوك إنت وهو.. أنا هروح لوحدي أسكن مع هشام وخليكوا إنتوا في الزبالة. ركل أمجد بعض القمامة المتكومة بركن من أركان العنبر ناحية حسام تحديداً مما جعل حدة حسام تتزايد تجاه أمجد خاصةً لما تقدم منه وهو يقول بعصبية: - مش هتروح يا أمجد .. أنا سبب المعرفة وانا اللي أحدد . لدى حسام وجهة نظر تحتسب فمن ضاجع الجميلة له حق رفض الرفاهية ليشقى ثلاثتنا في عنبر النفايات؛ لعنة الله تشمل كل أحمق ورفقائه على ما يبدوا. ترك حسام أمجد لحين وتقدم مني بعدما طرفت عيناه ناحية الغنيمة التي بيدي، سحبها مني بعنف لا داعي منه فقد كنت أنوي اقتسماها على ثلاثتنا بأي حال. تعرف حسام على الحقيبة من فوره ثم قال بعصبية: - دي شنط كريم .. إداك إيه ؟ وقبل أن أبرر سبب قبولي لصدقة الكريم لم ينتظر حسام تبريرات وفتح سحاب الحقيبة ورأى الكنز فصاح بغضب حد الجنون: - يا نهارك اسود .. انت يا مالك !! انت تقبل حسنة!! والاسم ولاد ناس وجه علينا اليوم وابن البلطجي والرقاصة يصرف علينا ونبقى من محاسيبه . اللعين الجاحد بالنعم ألقى محتويات الحقيبة أرضاً غير عابئاً لقدر المعاناة التي سوف نلقاها ان فقدنا حقيبة كتلك, بينما أمجد كان متيقظاً و مقدراً, فقد جثى من حول محتويات الحقيبة بسرعة الضوء ولملم ما سقط عنها إنما ليس وحيداً فقد أتى جمع من باقي زملاء العنبر للقنص وحينها أخرج أمجد من طيات سترته خنجره المتوارث عن أبيه ولوح به لعيون القانصين أن الهلاك قبل بلوغ مقتنياتنا, فتقهقر باقي الزملاء الأوغاد بعيداً عن الغنيمة بلا محاولات يائسة, خاصة بعدما أثبت وجودنا المدمر بأكثر من معركة ومن حينها لم يعد أحدًا من الزملاء يتخطى الثلاثي المصري. - سيبك منه يا مالك.. محروق من اللي حصله .. أنا وإنت نروح عند هشام . أثرتُ الصمت وذهبتُ لسريري للتهالك اليومي المعتاد الذي تتعرض له عظامي إثر النوم على المرتبة الخرسانية المعبأة بالرمال الأمريكية, فصاح أمجد بسقم مردفاً : - يا عالم حسوا على دمكوا .. هنسقط ونرجع إيد ورا وإيد أدام.. مش عارفين ناكل.. مش عارفين نذاكر .. ده إحنا حتى مش عارفين ننام .. وأخرتها بقينا نبيع نفسنا زى النسوان ونقبض التمن توت وسجاير. صحتُ به : - نام بقه يا أمجد خِلصنا . تقدم مني أمجد وحتى سريري المسجى عليه وقال: - إتكلم يا مالك ده انت كنت هتلبس في جبل من تعبك . جبلًا! كرمًا كبيرًا من الصديق الصديقي أن يقتص سلسلة جبال لجبلاً واحد. الجبال البيضاء، سلسلة جبلية تمتد في ولايتي كاليفورنيا إلى نيفادا، يبلغ طولها حوالي ستون ميلاً وعرضها عشرة أميال، أعلى قمة فيها هي قمة الجبل الأبيض الذي يصل ارتفاعه إلى أربعة ألاف ومائتين وإثنى وخمسون قدم. لا أريد حتى تذكر هذا الحادث فقد كان حديث القاعدة لأسابيع وكاد أن يعيدني أدراجي لمصر إن لم أكن كفء كفاية وحططتُ بالطائرة وحمولتها سليماً بأوعر المناطق الصحراوية بكاليفورنيا بأكملها. فمن المستحيل عدم رؤية سلسلة جبال ممتدة على طول الساحل الشرقي ولكنني لم أراها والسبب غفوت من الإرهاق أثناء القيادة من شدة ما قسوته في الليالي السابقة لتلك المهمة, لم توقظني عدادات الاقتراب القصوى أو نداءات أبراج المراقبة, فالوقت المتبقي بعد المهمات التي يثقل بها الأمريكان كاهلنا نهاراً هو الليل والليل سكن أما ليلنا نقضي أكثر من نصفه في الاستذكار لأن النهار مخصص للتدريبات وبعض المحاضرات وبالطبع مهمات نقل المعدات جواً والتي فرضت على كل من وجد بالقاعدة مأوى دائم مقابل تأمين طعامه وشرابه وفراشه الرملي. حتى أصحوا من غفوتي اضطر طيار أخر كان يطير من خلفي بنفس الحمولة بقذف جزء من المروحة الخلفية للطائرة حتى لا أصطدم بقوة بسلسلة الجبال وتنفجر الطائرة بالكامل بحمولتها الهامة من المواد الكيمائية الخطرة وقد يطاله الانفجار الهائل بسوء. أيقظني اهتزاز الطائرة إثر القذف وحينها مسحت لعابي المتسيل عن فمي وفتحتُ عيناي على اتساعهما مرحبًا بالموت خاصة لما رأيت طريقي المباشر المتجه للجبال البيضاء ولم يتبقى غير الشهادتين وأن أعد العدة لإعدادات الهبوط الاضطراري حتى أنال شرف المحاولة ونلتُ الشرف الذي أنقذ بعثتي لأن الأمريكان يقدرون التجربة فقد قمتُ بهبوط اضطراري ولم أقم يومًا بتجربته ولا على جهاز محاكاة وهبطتُ بطائرة بضائع من الحجم الكبير بأقسى منطقة شهدتها أو سمعتُ عنها بولاية الذهب. وتلك جزء من المآسي التي لا يعترف بها حبيب البناية الحسناء، نظرتُ لحسام متوسلاً ليعيد النظر بقراره ولكنه لم يبالي فصمتُ بدوري أما أمجد استشاط غضبًا وتوجه لحسام الذي يستعد للنوم غير مبالي بكلمة مما قالها وأردف: - ما أنت كنت هتجوز بنت الرقاصة جات علينا.. وافق يا حسام وإفرجها علينا كلنا.. ثم نظر لي أمجد وأردف بعصبية مضاعفة: - ماتكلم يا إبن اللي مش رقاصة . لابد أن أتكلم قبل أن تتحول أمي لشيء أخر في عصبية أمجد، وبفصاحة منقولة عن حارس الكريم قلتُ: - أنا هروح مع أمجد .. في الغربة مانقولش لاء .. بكرة نرد لما نرجع مجبورين الخاطر. استلقى حسام على سريره وقال ببرود: - بالسلامة. ليلة طويلة من المحادثات أدت لتجربة شهر فقط لا غير ولا لقبول لهدايا أخرى من الكريم وصديقه. محادثات تولى أغلبها أمجد، لا يجد ضرر من قبول صدقة من صديق أو عدو خاصة الحين ونحن في أشد الحاجة لكل عون وكل مساعدة، أما عن عنجهية الكريم معنا فهي عنجهية مقبولة ومشكورة كذلك بعدما تقبل فعلة حسام بتفتح مستغرب على أي رجل. صدقة مدفوعة الأجر من قلب أحرقته لوعات العشق وعلى الحسام تقبل الأجر لربح قريب وإلا خسارة لا ردعة فيها. ما بال الحسام ألا يعلم أن تقبل صدقة أخف وطأة مما أفعله أنا وأمجد بعد أن أصبح مالك مراد الديب وأمجد رسمياً men hoer. لما توطدت علاقتنا بمجندات زميلات عزيزات نلنا استحسان الزميلات الأخريات وذاع صيتنا فتعددت الصحبة لتخفيف ألم الوحدة على الجميع ولكن ألآم الوحدة مع الدراسة والمهمات أنهكتنا حتى الوهن وحينها رفضنا تسكين ألآم دون ألآمنا ألا إن العروض انهالت علينا لجذبنا من جديد، فاكهة، سجائر، أو أياً مما تجود به نسوة القاعدة ذوات العضلات المصقولة والنهود المتحجرة. كلانا فقط من تكفل بهذه الخدمة أما حسام رفض كل رفقة من أجل النقود أو أي شيء أخر رغم تزايد الطلب على المتعفف ولكن آبى وراقبنا في صمت حتى أنه رفض اقتسام الغنيمة معنا واكتفى بالطعام المقدم من القاعدة. باليوم التالي زففنّا لهشام موافقتنا وتم الرحيل، حارس الكريم من قادنا للحياة الجديدة ثم للمطعم ذاته بعد أن تركنا أمتعتنا بشقة هشام. تناولنا الغداء برفقة هشام فقط هذه المرة فقد كان كريم على طاولة أخرى مع طائفة تشبهه يناقش أعماله ولما غادروا ضيوفه توجه إلينا ووضع يده على كتف حسام المتقزز بشدة من لمسة الدويري وقال بمرح: - أول سهره ليكوا في لوس أنجلوس إنهارده. أجاب أمجد كريم باستحياء: - مفيش داعي إحنا تعبانين .. كفاية اللي عملتوا معانا لحد كده . جلس كريم وقال بينما ينظر لنا بمودة قلما جادت بها عيناه: - ده اللي كنت خايف منه .. يا جماعة أنتوا أخواتي.. أنا ماليش إخوات غير هشام وزهقت منه وعايز أغيَّر . ضحكنا للمجاملة فأردف: - أنتوا أعز من أخواتي لدرجة إني أخويا عرض عليكوا تشاركوه بيته وعمره ما عملها معايا . نعم بالطبع، إذ كانا صديقين وأخين كما يدعي الكريم لمَ لم يتشاركان السكنة ولكن من يأبى للتساؤل، تباً لكلاهما إلى أن تتضح السرائر. اصطحبنا الكريم للسهرة الأولى ولم تكن الأخيرة فكلما اضطرته أعماله للسفر إلى لوس أنجلوس أنعم علينا بغدءاته وسهراته ولم نستطيع رد بعد. بداية جديدة، شقة في إنغلوود جنوب لوس أنجلوس متوسطة الحال لأن هشام يقتات على راتبه من عمله فقط ويرفض المعونة من أبيه لأنه بلغ من العمر أرذله ووجب عليه أن يعيل نفسه كأي رجل. من بلغ من العمر أرذله بالحادية والثلاثين من عمره متشبع لأنفه بالفكر الأمريكي ويقول إن لو كل عائلة مصرية تركت لأبنائها مهمة إعالة أنفسهم منذ الثامنة عشر لتغير وجه العالم العربي أجمع ولكن الدلال يفسد الهمم حتى أمسينا من سكان العالم الثالث ولدينا كل المؤهلات لنمسي من العالم الأول. بالعالم الأول سكن قاطن فيلا الزمالك شقة تكلفتها ألف ومائتين دولار تتكون من أريكة وحيدة تتوسط الردهة الخانقة، كرسي ممزق الحواشي وجهاز تلفاز عشرون بوصة، مائدة طعام مكونة من طاولة وأربعة كراسي مطلة على المطبخ الأمريكي المفتوح على الردهة بنفور. غرفتين نوم، الأولى كانت لهشام إنما تركها ونقل أمتعته للأخرى ليترك لنا الأكبر حتى لا نموت خنقًا. رفقة الصديق الجديد ممتعة، خفيف الظل حلو المعشر مثقف لدرجة تكاد أن تكون مخيفة، مستغربة، مطلع على كل شيء حتى على مجالنا الطائر. كل ما يفعله عند عودته من عمله هو الطهو للجميع على نفقته ثم القراءة تليها تلاقي القراءة، ما يعنيه بمصطلحه الغريب هو مناقشة ما قرئه وحيدًا بيننا ليعلم تأثيره على من لم يحط به خبرًا ويشغل ساعاته الشاغرة بالتسكع بالجادة أو مشاهدة البرامج الأمريكية حتى ولو الأكثر تشويقاً. كانت تلك طريقة هشام لتوسعة مداركنا ورفع وعينا الخاوي من كل شيء فيما عدا دراستنا وحال النساء الأمريكيات خارج القاعدة. نقل لنا بعض أفكاره واكتسب أيضا بعضٍاً من أفكارنا وبدأ بالتسكع برفقتنا بأماكن كان يرفض المرور منها لخطورتها على الأمريكان المسالمين قبل العرب المغتربين لكن هذه الأماكن توفر مشروب معتدل الثمن وصحبة سهلة للنساء اللاتي ترغبن بعلاقة عابرة. قمتُ بالدور السامي الذي كنت أقوم به بمصر واستقطبت فتيات البار لباقي الصحبة بينما هشام لم يجد يومًا صعوبة في الحصول على ما يصبوا إليه، بمجرد دخولنا لأي حانة تبدأ الحوارات والمجادلات عن كل شيء وأي شيء فتأتي الفتيات على كلماته المنمقة مستغربين من وجود من مثله بمكان ضحل كالذي يقبعن به، وحينها تلمع عيونهن لصحبة ما هو أكثر من سائقي الشاحنات أو مجندين بالجيش كحالنا. حديث أخر عن الحريات التي اندثرت منذ تسلم جورج بوش الابن إدارة البلاد وحقوق اللاجئين ولا بأس أيضا من التطرق للحديث عن حقوق الأمريكان المنهمكين بدفع الضرائب لتدار عجلة الحرب ويسقط شباب الأمة ويتركوا الجميلات في حالة تكدس. تجمعت الفتيات على صوت الثائر ليستعمن إلى الخطبة العصماء إلى أن أقتحم البار من قبل مجموعة من الرجال الغاضبين، على وجهوهم وصمات عربية ببشرتهم المائلة للسمرة وشعرهم الأسود الكثيف. تقدم قائدهم من هشام وقال بلكنة أمريكية معكرة بالمغربية: - أنت وغد. وضع هشام كوب البيرة على البار الجالسين من أمامه والتف بكرسيه للخلف نحو متكلم وقال بهدوء: - وإنت كلب إبن كلب . أشهر الرجل مسدسه الكبير بوجه هشام وقال: - سوف تموت اليوم. أشاح هشام له بيده مستهزأ وقال بالعربية العامية مجدداً: - يا عم إتنيل . قلل هشام من عزم خصمه والذي سوف يطلق عليه الرصاص بالفعل فلم أجد إلا التصدي له؛ أمسكتُ بفوهة المسدس ووجهتها للأعلى فضربت الرصاصة القاصدة صدر هشام سقف الحانة بقوة أسقطت منه بعض الركام على رؤوسنا. فزع رواد الحانة المسالمين وبدئوا بالروع للخارج لطلب النجدة إنما لم يكتفي الضارب وأمر رجاله بالقنص مني ومن هشام فاضطررت آسفًا لتدريب عضلاتي التي تقلصت إثر حشرها بشقة هشام الصغيرة. تساقط المعتدون كذبابات ضلّت طريقها لناراً موقدة، اذاً عودة مجيدة للديب، ولا مجال للمبجل بين عراك، قام هشام لمعاونتي فأمسك به أمجد وحسام ليترك المجال للديب لتأديب من حاول المساس بصديقنا، كذلك وجود طرف أخر بالعراك يفقدني بعضاً من تركيزي الذي قد يتشتت من محاولة تأديب أعداء وحماية صديق سوياً. انتهيت من ثلاثتهم فسقطوا على الأرض بسكون في انتظار سيارة قمامة لجمعهم بالقريب، أما أنا لملمتُ أسلحتهم ووضعتها على البار ثم جمعتُ قميصي ووضعته داخل سروالي مجددًا بعدما تساخف أحداً من الحمقى الثلاث وجذبني منه حتى كاد أن يمزقه عن جسدي إنما نلت إنتقامي لما مزقتُ وجه المعتدي عبر رده بكرسي حديدي. جلست بجانب هشام المشدوه بما رءاه قبل قليل ويقول: - إنت إيه بالظبط ؟ أجبته مبتسماً: - أنا حبيبك .. مين دول يا جدع ؟ لم يعود هشام من صدمته حتى الان، لازالت عيونه تتبع الضحايا المسجيين أرضاً في ألم ثم تتحول لمحولهم إلى ضحايا إلى أن قال حسام ملطفاً الأجواء: - إهدى يا هشام كلنا نقدر نعمل اللى عمله مالك انت ناسي إننا خريجين كليات عسكرية. جاوبه هشام بتعجبه: - حتى وإن كان.. دول أربعه ومعاهم أسلحة؟! ربتتُ على كتف هشام وقلت مطمئنًا: - إطمن على نفسك بعد كده إحنا رجالتك.. برضه ما قولتش مين دول ؟ المغربي الغاضب تاجر مخدرات ضئيل الموهبة الإجرامية وهشام من كان يتابع قضيته بحكم منصبه بمكتب المدعي العام، وجب على هشام تخفيف عقوبة تاجر المخدرات وإرساله لبلدته وإنهاء هجرته على أسوء تقدير لكن هشام فعل ما هو أسوء، اعتذر عن القضية وتضامن مع أسر الضحايا وأثبت علي الموزع تهمة القتل العمد وليس قتل الضرر. حدجتُ هشام بتعجب وقلت: - ما طبعا لازم يخلّص عليك وبعدين قتل إيه إنت مش بتقول أنه ديلر ؟ قال هشام موضحاً: - مش مجرد ديلر ده مجرم بيستحق الإعدام رميًا بالبُلغ .. ببيبع مخدرات وبيتاجر فيها أدام المدارس وبيستخدم أطفال في تزويعها وفي طفل مسكين تسع سنين فتح كيس هيروين وشمه ومات وهو ده اللي إتضامت مع أهله . قال أمجد بذهول: - ده انت رايحه منك خالص .. أوعى ترجع مصر. وأنا من حسبتُ نفسي مالك ملوك التهور على الكرة الارضية حتى تزعزع عرشي. نال هشام حقًا إعجابي وقلما أعجبتُ بأحد وبرغم الإعجاب والثناء على شجاعة القاضي يجد نفسه مقصر والعالم يحتاج للمزيد والمزيد ليحدث تغيير حقيقي يستشعر. لم يتنازل هشام عن الحقيقة يريد معرفة كيف نال رجل واحد من أربعة رجال مدججين بالأسلحة الأتوماتيكية بلا مساعدة من صديقاي اللذين تابعا النزال بهدوء. وجاءت الإجابة أكثر تحيراً؛ صديقاي بالطبع قد يستطيعا فعل ما فعلته، إلا أنهما جبانين فهما يخشيا إصابة قد تلحق بهما وتحرمهما من الطيران والتدرب أما أنا متهور مثل صديقي الجديد. نلتُ أيضا من إعجاب القاضي وأخدق علي بأكثر ما يملك؛ المعرفة. حدَّثني هشام بشتى المواضيع، بأمور ومعاني لم أكن أعلم حتى عن وجودها، أعانني على دفع الوطن لداخل قلبي وليس للخارج فما ذنب الوطن بما جنيناه نحن ومن قبلنا أباؤنا لما استكانوا وقبلوا بهذه المعيشة. حثني هشام على استخدام عقلي بالتدقيق وليس بالتضليل والهرب بما أراه بعيوني الضيقة كارثة خاصة بعد وعكة أبي المادية. نقص النقود أو زوالها ليس بكارثة إنما الكارثة الحقيقة ضياع الإنسان أو تيه بدروب سيق إليها. وأنا لم أساق بل اخترت، اخترت النجاح بمجال ليس من السهل التطرق إليه وعلي الان الإثبات لنفسي قبل الجميع أنني لستُ مجرد طيار ولكني طيار متميز والتميز يحتاج التفرد والتفرد يأتي بالتطرق لطرق لم يلتف إليها أحداً. التفت لكل ما عرضه علي هشام وتركتُ وبال النساء واكتفيت بالتفرد والبحث؛ بالبحث عن الفكرة التي قد تجعلني المتميز المتفرد، أما صديقاي في حالة تيه مصحوبة بالذهول فلم يتوقع أياً منهما أن تنال مني كلمات هشام التي لم تؤتي صدى لديهما ولقت صداها داخلي. انتهت الإجازة وعدنا للجحيم المألوف عن ذي قبل، انتهت المحاضرات وخرجنا لتنسم عادم الطائرات المقاتلة الجديدة التي سمعنا عن وصولها من روسيا منذ أيام، سوف يفرج عنها اليوم ليتدرب عليه أبناء الوطن أما نحن نراقب آملين بالمستحيل. هناك واحداً منا فقط على يقين بتحقق المستحيل وهو أمجد؛ ينتظر أن يكون من أخوية الإثنى عشر. أسطورة سمعناها تتردد بأركان الكلية لتزيد من حماستنا للدراسة؛ ثلاثة أسراب كل سرب يضم إثنى عشر طيار مقاتل من شتى بقاع الارض ما عدا الأرض التي استأجرتهم للتجسس أو كلمة أخف وطأة، الاستطلاع على باقي البلدان مقابل المال الوفير والحصانة المنيعة. وقفنا نرقب خروج الإثنى عشر طيار مقاتل، لا نراهم بالقاعدة إلا للتحليق بأحدث الطائرات لا يحضرون محاضرات أو يدرّسون، حياتهم التحليق بالأعالي فقط على جناحين من ذهب روسي الصنع؛ فالروس الأبرع على الإطلاق في صنع طائرات التجسس. نظر حسام بتفحص للطيارين وقال متسائلاً: - نفسى إعرف إشمعنا الإتناشر دول اللى بيطلعوا على أحدث طائرات برغم إنهم شكلهم مش أمريكان . جاوبه أمجد: - دول سرب الاستطلاع الأمريكي. بدى على حسام التذكر وقال: - اهااا .. أبويا حكالى عنهم .. الجواسيس . قال أمجد مستنكراً بشدة : - جواسيس إيه يا حمار!! دول بيكونوا مصنفين عالميًا لأكتر من مرة وبيقضبوا بالملايين وبيتبعت لبلادهم مبالغ ماهولة نظير إعارتهم لأمريكا . نظرتُ للميج أربعة وثلاثون وهي تلفظ نارها من خلفيتها كتنين أسطوري بينما تمسح المدرج استعدادا للصعود وقلتُ متعجبًا: - ملايين! قال أمجد مؤكداً: - أيوه ملايين.. عارفين يا ولاد أول ما أكون من ضمن سرب الاستطلاع هأجرلكوا شقة كبيرة فى بيفلرلى هيلز وأصرف عليكوا وأستتكوا فى البيت. نظرتُ لأمجد الذي أبدى كرماً أخيراً على عكس عادته ولكن بالخيال وقلتُ : - كلك واجب .. بس إزاى الواحد يبقى من ضمنهم؟ نظر لنا أمجد وقال بابتئاس: - مش عارف يا أخى عمال فاحت نفسي مذاكرة وتدريب ومش لاقي نتيجة بس أبويا قالي أنه بيبقوا مراقبين كل الطيارين فى التدريب وبيختاروا المتميز ويبلغوه . وإلى هنا عاد ثلاثتنا لتأمل الطائرات بالسماء بلا أمل لاعتلاء إحداهن. قلتُ بيقين: - أدفع نص عمرى وأطلع على واحدة من دول . أحبط حسام طموحي الجارف متهكماً: - ممكن تدفع عمرك كله كمان .. دى شغلانه خطيرة يا عم.. الله الغنى. **انتهى الفصل**
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD