الفصل الثاني

1916 Words
جلال عبد المقصود. البداية .. القاهره 1981 .. أحداث متلاحقة هزت مصر منذ وطئت قدمي أرض القاهرة لأبدأ دراستي العسكرية. بدايةً مقتل رئيس الجهمورية بطل الحرب السلام محمد أنور السادات ليتسلم القيادة نائبه قائد القوات الجوية المظفر بنصر أكتوبر المجيد محمد حسني مبارك . تخرجت في الكلية الجوية كأول دفعة مكرر لأكون أفضل من عمي اللواء حمدي الذي شارك في حرب أكتوبر المجيدة ورأى النصر بعيونه من طائرته. إنتظرت قرار البعثة للولايات المتحدة لتسعة أشهر ولكن أبي ألح على بالزواج قبل السفر وبالطبع إمتثلت فقد ذهبت فدوى بلا رجعة كما ظننت حينها. قضيت مع عروسي شهراً واحد ثم سافرت للوس أنجلوس لتبدأ تدريباتي المضنية, تحميل وتفريغ شتى المعدات والحمولات الخطرة من قاعدة لأخرى, محاضرات لا تنتهي, نظرة بغض لكل أفريقي لجأ للغرب للتعلم إنما ذلك لم يردعني أبداً عن مسعاي؛ طيار متميز أعود لبلدي بكل جديد وفريد بعلم الطيران فالطيران لا يقتصر على التحليق فحسب ولكن يتمركز على الحفاظ على سلامة الركاب والحمولة وإنزالهما بسلام فأي قرد مدرب يسطيع قيادة مركبة ولكن إبقاء المركبة مستوية بشتى الظروف المناخية يستلزم مهارة وخبرة لا تكتسب إلا بسنوات من الجهد والعرق . نلت من الجهد والعرق ما يكفيني أنا ودفعتي وعدنا لبلادنا للتطبيق, لسنة واحدة تثنى لنا التطبيق ثم فاجأنا إعلان مشفر أرسل لكل طيار حصل على أعلى المراكز في التصنيف الدولي المخصص للطيارين الحربيين وبالطبع كنت منهم . الإعلان ينص فرص لذوي المهارة الشديدة واللسان الخفيض تمنحها العديد من الدول للتحليق بأنحاء أفريقيا الغربية لمهمة سرية مقابل مائة دولار لكل ساعة من التحليق بعدما قرأت الاعلام نال مني التعجب, فإن كنا من ذوي المهارة الشديدة كما يدعون لمَ أذاقونا الأمريين بالبعثة هل للتدريب كذلك أم مجرد تعجرف أمريكي مخصص لذوات البشرة السمراء , لا يهم الان فالأحق التفكير بشأن هذا الإعلان فمائة دولار مبلغ ليس هين بل كان ثروة حينها. إنتهيت من قراءة الاعلان ثم مزقته كما تنص السرية إنما السرية تلح بالإتلاف التام, لذلك سحبت المرمدة التي من أعلى مكتبي وألقيت بها قطع الورق الممزق ثم أشعلت بهم النيران ولما إلتهمت النيران كل حرف خرجت من مكتبي لضابطي الأعلى العميد صبري عناني فوجدت زملائي متحلقين من حول مكتبه لنفس الأسباب. لما رءاني مقبل عليه قال: - كويس إنكوا كلكوا إتجمعتوا إقفل الباب يا جلال أغلقت الباب من خلفي وإنضممت لجمعة الزملاء فقال العميد صبري : - مين ناوي يطلع؟ سأل زميل: - مش نفهم الاول ؟ - لقوا يورانيوم في زائير و مطلوب تحميله نفس الزميل يسأل من جديد : - مين اللي لقوا؟ - كتير والمفروض ما نسألش نحمل .. ننقل .. نقبض هذه المرة سأل صديقي المقرب هاشم : - وإحنا مالناش نصيب من تورتة اليورانيوم - على أساس لو لينا هيبلغوا سيادتك ؟! دورة الأسئلة تسقط عندي فأقول متحيراً: - وطب ليه ما يستخدموش طيارينهم - عشان جبنا خايفين من الإشعاعات ثم هاشم من جديد يهتف بحنق: - وإحنا بقه اللي جبلات ؟! - اللي رافض هو حر .. يقعد جنب أمه وساد صمت التأمل والتفكر للحظات إلى أن قطعته : - هو حضرتك طالع ؟ - طبعاً - ليه لمواخذة, حضرتك ميسور ؟! - عشان أشوف أصحابي ضحكنا بالطبع فأردف العميد : - اللي هتشوفوه هناك يعتبر تدريب على أعلى مستوى , طيارات أحدث , جنسيات عمركوا ما كنتوا هتتعاملوا معاها, ده غير العلاقات سأل زميلي هاشم : - بجد يا باشا 100 دولار في الساعة ولا هيفصلوا ؟ - لا إطمن 100 وأكتر - يبقى مش يورانيوم بس .. انا سامع أنهم لقوا مع اليورانيوم ماس - لقوا كنز علي بابا احنا لينا فلوسهم وهما ليهم يسرقوا لم تشغلني الدولارات بقدر ما شغلنا وطن يسلب فتسائلت : - طب و أهل البلد .. هيكستوا على سرقتهم ؟! - نصهم هيموت و يمكن كلهم لكن إحنا نقدر نساعدهم كيف بتعلم لغتهم وتوسيع مداركهم لتتم سرقتهم بسلاسة ويسر لكلا الطرفين كذلك زائير إقتصادها يقوم على الزراعة بشكل كلي وسحب اليورانيوم من جبالهم قد لا يضيرهم و لو على المدى القريب فهم شعبي أولي يتبع الفطرة والصناعات ببلادهم شحيحة للغاية ويعتمدوا على الصادرات بشكلاً كبير. أقام العميد صبري لنا حلقة دراسية لتعلم الفرنسية لغة زائير الأولى وكذلك لتعلم اللهجات العديدة لبني الكونجو أو زائير بعدما نالت إستقلالها الصوري عن بلجيكا. إستمرت الحلقة الدراسية لشهر وجائت أوامر السفر بالشهر الذي تلاه وللمفاجأة على طائرات مدنية وليس عسكرية تم نقلنا على درجة رجال الأعمال بخلاف شيك بقيمة ألف دولار مقدماً ناله كل واحد منا, حسبناه كرماً زائد من جمعية المنتفعين من اليورانيوم وخلافه ولكننا كنا حالمون بعض الشيء وتوالت المفاجآت . وكما الواقع المتفشي بكل بلد عربي أو شرقي أو حتى أفريقي, مطار دولي على مستوى لا بأس به وإن كان لا يقارن بمطار القاهرة الدولي, تستطيع تصنيفه على أنه زربية للحيوانات الأليفة التي تزحف من حولنا وتنقر أحذيتنا وصديق مقرب لي يحمل الدجاجة الحمراء التي تنقر حذائه ويقول بسعادة : - سمينة ندبحها وناكلها الليلة ينزلها عن يده زميل أخر ويقول : - ممكن يكونوا بيعبدوا الفراخ يا غبي .. إنت مش شايف الفراخ مطلوقة إزاي حتى في المطار وقبل أن أتدخل في جدال الزملاء بخصوص سرقة دجاج المطار نجد الرصاص يتطاير من فوق رؤوسنا بلا ذنباً جنينا وحينها حاوطونا رجال المارينز لتأميننا بينما يتبادلون الرصاص مع المعتدين الذين لم نراهم للأن. حافلة متوسطة الحجم إقتحمت المشهد المريب حُملنا بها على وجه السرعة وخرجت بنا من المطار لشوراع معبدة مرصوفة بالأسفلت, فنادق ضخمة ومحال لماركات عالمية وأناس من كل الجنسيات والألوان وليس الزائريين فحسب ثم الواقع الأليم. ساعة ونصف الساعة داخل الحافلة التي رجرجت كل عضلة بجسدنا حتى الإنهاك فالشوارع, لا ليس هناك شوارع الطرق الصحراوية التي ممرنا عليها ليس معبدة وكانت كما الجبال التي قصفت فتناثرت أحجارها هنا وهناك ونحن عليها سائرون ثم النهاية أو البداية. الان والان فقط أحمد الله على موطني وحمى الله مصر وشعبها فزائير حائزة على جائزة الفقر الأولى مع نوط الواجب, فهم فقراء حتى عنما يسترهم رجالاً ونساء وأطفال على حدٍ سواء, جميعم عرايا بشكل منفر نحفاء, متدهلين ورغم سمرتهم الحادة مصفيرين من سوء التغذية, حتى لا يسكنوا الخيام لأن ما يعلوهم من أسقف؛ خرق بالية إنتصبت على أعمدة خشبية لا تسترهم عن كريمٍ أو لئيم, جثث حيوانات نافقة بالطريق وأكاد أجزم أن بالطريق جثث أخرى بخلاف جثث الحيوانات إلا إنني لم أدقق جيداً كما نصحني العميد صبري حتى لا أفقد الوعي وحينها يحملني الزملاء مع أمتعتهم الثقيلة. خراء بكل مكان وشتى المخلفات خضنا فيها حتى وصلنا للمعسكر وللاسف الشديد لم نكن نرتدي أخذية عسكرية ضخمة تقينا من تلك الأقذار فصاحبتنا رائحة عفونة لا تنبعث إلا من مقبرة كلاب. كنا نهارا ًالرابعة بتوقيت الكونجو, من حولنا عسكريين من شتى الجنسيات جاءوا ليفعلوا ما سوف نفعل مقابل الشيكات الثقيلة. يحدجونا بإذراء بلا أسباب حتى إقترب منا اللعين؛ من يريد إعتصار دم إبنتي حتى قبل أن أتزوج من أمها لأنجبها. يبتسم للعميد صبري بينما نظراته تسقط علي بإستبشار ويقول مرحباً: - هلا بالغوالي يجيبه العميد صبري : - إزيك يا فيفي .. ما كنتش هتضيع الفرصة أكيد .. كلب فلوس إقترب فيفي من العميد صبري وهمس له: - ونفوذ .. ثم عاد إلينا وقال .. إتوحشت المصريين .. تعو أوريكم مخيمكم مشينا على خطى فيفي حتى براح من الأراضي الزراعية المتبورة ذلك كان مخيمنا فصحت به - هنام في الطل ؟! أجابني العميد صبري: - هنقضيها لحد الصبح وبكرة هننزل البلد نشتري جوخ وننصب خيام قال هاشم بتجوس: - خيم !! والأسود و النمور - تظن نفسك في سيرك هنا ما في غير قرود لطيفة جداً قالها فيفي فنظر هاشم له بإمتعاض ثم تحول للعميد صبري قائلاً : - هنسقع يا باشا صاح به العميد : - ما تنشف ياض انت وهو ولا انتوا فاكرينها رحلة وما أجملها رحلة. أفرغنا أمتعنا ولأننا حمقى وتلك مرتنا الأولى بجحيم مثل ذاك لم نجلب مؤن من موطننا كما فعل باقي الطيارين وكل ما جلبناه أكياس للنوم وملابسنا, بينما باقي الزملاء من مختلف الجنسيات سافروا بمعلباتهم وخيامهم وحتى مياهم المعدنية إنما العميد صبري أخبرنا أنهم الحمقى لأن تلك المؤن بزائير أرخص ثمناً. أعاد التاريخ نفسه وذكرني بفرقة الصاعقة التي نلتها فور تخرجي في الكلية الجوية, حينها كان فراشنا الرمال وغطائنا النجوم ومصباحنا القمر إنما الان فراشنا كيس مجهز للنوم إنما لم يمنع عنك خشمة أسد. أخرج راسي من كيس النوم وأجيب هاشم هازئاً: - ما قالوا مفيش هنا أسود.. قرود ظريفة بس - والتعابين ؟ - ما تعديش من الكيس - والاناكودنا لما تعصرك وانت جوا الكيس؟ - تعصرك انت .. الاناكودا أسطورة - والعفاريت ؟ - ما عفاريت إلا بني أدم .. ما تتخمد بقه نغلق أكياس النوم علينا بالكامل لتشمل رؤوسنا ونحاول أن نغفوا للصباح التالي للعمل الجديد لمأئة دولار لكل ساعة تحليق على أحدث الطائرات لأحلام أم أوهام أم أنين مكتوم لرجل يطلب الغفران بلغة بلاده إنما ليست الفرنسية ولكن اللينجالا لغة الجنوب - بعتهم فباعوني .. متى يتوقف الحريق .. الجحيم .. الغوث ثم صوتاً مألوف: - أوعي حد يفتح الكيس ناموا والصباح رباح يهمس هاشم من داخل كيس النوم معقباً على نصح العميد صبري : - يعني اللي سمعينه ده حقيقي ؟ يجيبه العميد صبري بحزم : - الحراسة في كل مكان .. ناموا تلاقيها النداهة كانت تلك نصيحة العميد صبري من داخل الكيس كذلك, نصيحة سمعتها آلاف المرات بتدريبات الصاعقة أيضا, إياك والمساس بعالم غير عالمك فالأرواح المذنبة ضلت طريقها للسماء وملاذها التحرش بالأحياء للتسلي ووجب عليك أن لا تكون مزحتهم الجديدة فالإيذاء نهجهم أحياءً وأموات إلى أن نجمع أجمعين بيوم الدينونة. إنما تلك الأرواح ذو قوى كبيرة ففي فترة تدريبات الصاعقة كانت تظهر الأشباح وما شبه لكل نفراً منا منفرداً أو لم تكن أشباح من الأصل و كانت خوفنا بعد تمثله بكيانات سكنتنا لحكايا سمعناها من أبائنا وزملائنا بالدفع السابقة. إذاً ما يحدث الآن ليس خيالات إثر إنتقالنا لعالم جديد وقد تكون حقيقة فأنا أسمع كذلك تكسر الأغصان وأوراق الشجر اليابسة من أسفل أكياس زملائي إثر إرتجافهم الشديد لسماعهم ما سمعته. ما يحدث حقيقة بقدر سماع طلقات رصاص قريبة للغاية مصحوبة بضحكات سمجة جعلتني أخرج من كيسي لأرى أكثر مشهد حيرني بحياتي . القمر المتسق كما يجب بمنتصف الشهر العربي, داكن مخضب بدماء أغشت عني ضيائه.. ضياء قاني بنفسجي أعتقد, يتسلل من خلف التلال في نسق خلاب أضاء العتمة ولكن بالتوجس فأي ضياء هذا قد يأتي بنفسجي اللون .. فيفي أو فريد فهو يدعى فريد الفغالي يضحك ملأ فاه ويطلق الرصاص على كيان ضئيل الحجم من اللحم المهتري المتحترق حتى التفحم .. وجه الكيان أدهشني بحق نصفه تلاشى لتعفن بعد موت والنصف الأخر جرى سلخه بمهارة جراح وليس جزاز فرغم الظلام أرى الأوردة الوردية والعظام والقشرة الدماغية .. عيناه بلا أجفان بياضها إحمرار ودموعه الآسية دماء داكنة تحرق ما تبقى من وجهه فيتسيل اللحم المهتري على الأرض كالحمم البركانية التي أشعلت من حول الكيان النيران الواهنة التي ما تنفك تهدأ لما تنال منها الرياح الجنوبية حتى تشتعل من جديد لما توافيها دموع جديدة . خرجت من الكيس والفزع يتملكني وتوجهت لفريد المرتكن بأريحية كبيرة إلي شجرة ضخمة وأقول مشدوهاً: - ده بني أدم زينا ؟! - كان - اومال ده إيه ؟! - ولا شي - اومال بتضرب عليه نار ليه؟ - بتسلى أنظر للكيان أجده على حاله المهمهم المحترق واللعين بجانبي يزيد من بؤسه بإطلاق النيران على ما تبقى من جسده فأصيح به: - ما تسيبه يا أخي - صدقني أنا بحاول أريحه .. كل يوم أفرغ فيه خزنتين ويجي كل يوم للمزيد لا أصدقه . ليس هناك شبح أو كيان أو حتى جان في مقدرته التمثل بهذا الجسور أمام رجلين. أشعر بالشفقة تجاهه وتجاهه أسير بخطى متخبطة يسكنني الخوف ولا أنكر فلو كان بشر لقتله رصاصة واحدة وليس خزينة, لو كان بشر لمات من فوره إثر تلك الجراح المتناثرة على جسده, لو كان بشر ما كان ليعرف تلك الحقائق عني وحدثني بلغة الجنوب قائلاً: - عد للحب تنتظرك .. خبّر أمك عني .. أجعلها تطلب لي الصفح .. إسمي .. إسمي .. لا أذكر إسمي ..أذكر جريمتي فقط .. مئات .. مئات إحترقوا .. أريد الخلاص ثم رصاصة واحدة من فريد تطيح بالجزء الشمالي من جبهة الكيان فتسقطه أرضاً, بل تدفنه أرضاً ويعود ألق القمر يملأ البراح الخاص بمعسكرنا . أعود للعين الذي يسخر من خوفي وأقول: - انت عارف حكايته؟ - ماكوشي بوتو كفاية أسمه
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD